عشق الصحابة للتبليغ

عشق الصحابة للتبليغ
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

على الإنسان أن يؤمن بداية بحقيقة الرسالة التي يبلغها للآخرين وضرورتها وأهمّيتها، ويصدّق بها من صميم قلبه؛ حتى تؤتي هذه الدعوةُ ثمارها، وتلقى حسنَ القبول.. وهذا الأمرُ من أكبر العوامل التي جَعلت للحقائق السامية صدًى في القلوب خلال وقت يسير، لا سيما تلك التي بلغها الرسول صلى الله عليه وسلم وطبقها، وأخذها عنه أصحابه الكرام رضوان الله عليهم وبلغوها للآخرين بعد أن امتثلوها تمامًا، لقد كانوا يؤمنون إيمانًا يقينيًّا بالدين الذي يمثلونه ويبلّغونه أكثر من إيمانهم بمجيء الغد بعد اليوم أو بشروق شمس اليوم التالي بعد غروبها اليوم، لم يساوِرْ سادتَنا الصحابةَ رضوان الله عليهم أدنى شكّ فيما وعدهم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقد كانوا يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر أكثر من إيمانهم بأنّ حاصل جمع اثنين مع اثنين يساوي أربعة.

لا شك أن المرء يُجازَى في الآخرة على إيمانه أو إنكاره، فمن يؤمنون بالرسالة التي بلّغها مفخرةُ الإنسانية صلى الله عليه وسلم للبشرية؛ بنعيم الجنة والسعادة الأبدية مبشَّرون، ولمشاهدة جمال الحق تعالى مرشَّحون، وإلى أفق الرضا الإلهي يسيرون.. وهذا السير منهم بهذه الأحوال في الدنيا يشبهُ رحلةَ صعودٍ نحو العالم الملكوتي.. أما عاقبة الذين سلكوا طريق الإنكار فهو التردي إلى أسفل سافلين، والتعرض للخسران المبين، وتذوّق العذاب الأليم.

لقد كان سادتنا الصحابة رضي الله عنهم يوقنون بمجازاة الإيمان والكفر في الآخرة، وكان يحدوهم شوقٌ عارمٌ للأخذ بأيدي الإنسانية إلى طُرق الخير، فكانوا في حرصهم على التبيلغ يقتدون بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يواسيه ربُّه بقوله سبحانه وتعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا﴾ (سورة الْكَهْفِ: 18/6).

أجل، لقد كاد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده أتباعه الصادقون حسب مراتبهم؛ أن يهلكوا أنفسهم حتى يرقى الناس إلى أعلى الكمالات، ويفوزوا بالجنة، ويُتوِّجوا نعيمَهم الأخروي بالرضا والرضوان.

أما نحن فمع الأسف فقدنا هذا الشعور والحرص على التبليغ والاشتياق له، ولم يعد يحدونا هذا الشوق العارم لتبليغ الحقّ والحقيقة إلى الآخرين، ولا تذهب نفسنا حسرات على الذين انغرزوا في مستنقعات الكفر والضلال، بل ذهب الأمر بالكثيرين إلى أن قالوا: “لماذا تهلكون أنفسكم من أجل التبليغ عن الله سبحانه وتعالى، فلقد خلق الله جهنم ليدخلها بعض الناس!” وأغلب الظن أن القائلين بذلك لا يعلمون ماهية جهنم، ولا يدرون ما الذي يخسره من يضيّع إيمانه، ولا يدركون معنى الخلود والخسران الأبدي؛ فليس من الجدير بإنسان يتحلّى بإيمان كامل وقلب سليم وعقل رشيد ألا يكترث ولا يبالي بحال البشرية التي سقطت في دوامة الكفر، وما زالت تتخبّط وتنتفض داخلها.

وهكذا فما جعل الصحابة رضوان الله عليهم متميّزين عن غيرهم هو فهمهم العالي، وحساسيّتهم الشديدة تجاه هذه المسألة.. فقد كانوا ينظرون بعينٍ إلى الجنة، فيرون أنها ليست بالمكان الذي يجدر التضحية به، وينظرون بعينٍ أخرى إلى جهنم فيحاولون مدّ يد العون إلى الآخرين عسى ألا يسقِط اللهُ أحدًا في نارها! كانت لديهم غاية سامية وهدف نبيل، وكأنهم كانوا يعيشون لهذه الغاية فقط، وهو ما يمكن أن نطلق عليه “غاية الإحياء”، فهؤلاء كانوا يعيشون من أجل غيرهم، وليس من أجل أنفسهم، يعيشون من أجل إحياء الآخرين، ويبذلون التضحيات حتى يحيا الآخرون، ولو لزم الأمر أقبلوا على الموت في هذا السبيل فرحِين مستبشِرين، فلا معنى عندهم لحياةٍ لا تزيّنها هذه الغاية، فهم يرون أن مَن حُرموا هذه الغاية يشبهون القبور المتحركة.

إنّ المولى سبحانه وتعالى عندما أرسل مفخرةَ الإنسانية صلى الله عليه وسلم بالرسالة؛ كأنه أرسل معه أناسًا على استعدادٍ تامّ لتقبّل هذه الرسالة الإلهية بكلِّ صدقٍ وإخلاصٍ، والعمل على نشرِها في بقاع العالم.. وإلا كيف يمكن تفسير موقف أمّنا السيدة خديجة، وسيدنا أبي بكر، وسيدنا عمر، وسيدنا عثمان، وسيدنا علي، وغيرهم من السابقين الأولين رضي الله عنهم أجمعين! ففي الوقت الذي كان فيه الوحي يتنزّل ببضع آيات على صاحب الرسالة لم يتردّد هؤلاء في تقبّل الرسالة التي جاءهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، وحرصوا على تبليغها للآخرين..

فعندما نزل الوحيُ أوَّلَ ما نزل، أخبر عليه الصلاة والسلام زوجَه السيدة خديجة رضي الله عنها، فردّت عليه بكلماتٍ تعكس بحقٍّ إدراكَها الواعي وفهمها العميق.. وإيمانُ سيدنا أبي بكر رضي الله عنه بمجرّد سماعه بالرسالة المحمدية دون تردّدٍ، وتبنّيه الدعوة وحرصُه عليها بكلّ طاقتِهِ؛ ليس بالأمر الذي يُستهان به.. ولم يختلف موقف غيرهم من السابقين الأولين عن موقف هؤلاء، فبعد أن تبوّأ كلُّ واحدٍ منهم مكانه خلف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتقوا -بشكلٍ مذهلٍ- ارتقاء عموديًّا. أجل، كأن الله تعالى لما أرسل الإنسان الكامل صلى الله عليه وسلم بالرسالة التي ستغيِّر لون العالم وشكله وزخارفه؛ أعدَّ أصحابه وبَرْمَجَهُم على هذا الأمر حتى يتسنّى لهم مساعدته والوقوف بجانبه، وقد ترك إيمانُهم العميق وتسليمُهم التام وتوكّلُهم الكامل تأثيرًا مختلفًا في نفوس المخاطَبين.

وكان لانصباغ هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في جوّ النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن خرجوا للتو من الجاهلية أثرٌ كبير في أن يصبحوا أبطالَ عرفانٍ ورجالَ قلبٍ وروحٍ قادرين على إرشاد الإنسانية خلال مدة وجيزة.. فمن تشاركوا معه نفس المكان، وتنفّسوا أجواءه، وشهدوا سلوكه وأفعاله ونظراته ومواقفه، لم يحدث أن رصدوا ولو كذبةً واحدةً في كلّ أقواله وأفعاله وأحواله.. لقد كان صلى الله عليه وسلم بأحواله وأفعاله يبعث الثقة والطمأنينة في نفوس مخاطبيه، فلمّا انصبغ هؤلاء بفكره ومشاعره ارتقوا معنًى وروحًا خلال زمنٍ يسيرٍ، ولا غرابة في ذلك فمن المتعذّر أن يدخل أحدٌ في أجوائه ولا يتأثّر به، المهم أن لا يحمل حكمًا مسبقًا إزاء الرسائل التي يبلغها، لقد كان صلى الله عليه وسلم يتمتّع بجاذبية قوية لدرجة أن الذين كانوا لا يزالون حتى ذلك اليوم يعيشون في الأوحال؛ استطاعوا بفضله التخلّص بسرعةٍ مما كانوا فيه، واغتسلوا وتطهروا كما لو كانوا يغتسلون بماء الكوثر، وارتقوا إلى أن تجاثوا على الركب مع الملائكة كفرسَي رهان.

لقد تبوّأ سادتنا الصحابة رضوان الله عليهم مكانهم خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمنوا به إيمانًا جازمًا، وجعلوا تبليغ رسالته أعظم أمانيهم وأسمى غاياتهم، ولذلك كانوا على درجةٍ عالية من الدقة والحساسية في أسلوب تقديم هذه الرسالة المباركة، فأحسنوا تمثيلها تمثيلًا قويًّا لا يبعث على الريب والاعتراض، ثم نقلوا عوالمهم الروحية إلى الآخرين منتهجين أسلوب العقل والرفق واللين.

وهكذا فإن أكثر ما نحتاجه اليوم هو أفق الصحابة هذا، فلو أننا آمنّا -بهذا القدر- بالقيم التي نتبنّاها، وحرصنا على تبليغها إلى الصدور الظامئة؛ فسنجعل حتى من سجوننا مدارسَ يوسفيّة لنا كما فعل الأستاذ بديع الزمان سعيد النُّورْسي، ونسعى للنفوذ إلى قلوب الآخرين دون أن نضيِّع ولو ذرّةً واحدةً من الوقت الذي وهبه الله لنا، ونلقي بذور الحبّ والإيمان قدر ما نستطيع في كل أنحاء العالم.