القمع المجتمعي

القمع المجتمعي
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

سؤال: يسيطر على بعض الأوساط والدوائر اليوم القلق والخوف من الإسلام والمسلمين، فراحوا يدّعون أن المسلمين سيمارسون القمع والعنف على غيرهم لو أتيحت لهم الفرصة وتوفرت لديهم الإمكانات، أو على الأقل سيمارسون ما يسمى بالقمع المجتمعي ضد الآخرين للحيلولة دون أدائهم طقوسهم وشعائرهم؛ فما مصدر هذا الخوف؟ وهل لهذه الانتقادات والمخاوف من مبرر معقول؟

الجواب: يقول ربنا سبحانه وتعالى في القرآن الكريم مخاطبًا النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ (سورة الأَنْبِيَاءِ: 21/107)، وقد صدَّق صلى الله عليه وسلم هذا البيان الإلهي بأقواله وأفعاله، وظل عليه الصلاة والسلام طوال حياته السنية يتعامل مع الجميع بشفقةٍ ورحمةٍ ولينٍ، ولم تختلف هذه المعاملة حتى في الحروب، فلم يحمل أيَّ حقدٍ أو ضغينة، ولم يفكر في الانتقام من أحد، حتى إنه عفا عن مشركي مكة الذين ساموه هو وأصحابَه سوء العذاب.

ولقد حرّم القرآن الكريم شتى أنواع القمع والاضطهاد بقوله: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/256)، وأكّد على تحريم الجبر والإكراه في آيات عديدة، منها على سبيل المثال: ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾ (سورة ق: 50/45)، وقوله: ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ (سورة الغَاشِيَةِ: 88/22).. فإذا كان البعض رغم كل هذا يتخوّف من المسلمين ويعتقد أنهم سيمارسون القمع على غيرهم فهذا إما يرجع إلى أن المسلمين قد أخطؤوا في فهم الإسلام وتمثيله، أو أن هؤلاء الخائفين قد أخطؤوا في التعرّف على الإسلام والمسلمين، أو أن لهم مقاصدَ أخرى من وراء ترويجهم هذه الأفكار.

والذين مارسوا الضغط والإكراه على الناس حتى اليوم هم -في الغالب- ممثّلو الكفر والإلحاد؛ فهؤلاء هم الذين أذاقوا من ليسوا على شاكلتهم شتى أنواع الظلم والحرمان، وفرضوا أفكارهم وأنظمتهم عليهم مستخدمين في سبيل ذلك شتى الطرق والوسائل، ولكي يجعلوا المجتمعات شبيهة بهم وتابعة لهم فقد مارسوا عليها القمع المجتمعي بأبشع صوره، وهكذا فإنهم يعبرون بين حين وآخر عن هذا القلق وهذه المخاوف؛ لاعتقادهم أن المسلمين مثلهم أو لمقارنتهم المسلمين بأنفسهم.

وأنا لا أستبعد أن يكون بين المسلمين اليوم من لم يفهم الإسلام بما يتناسب مع لبّه وجوهره، ولم يستوعب روح الدين، ولم يُحسن قراءة الحياة السنية للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتعمق في فقه السيرة، ولم يفسّر الإسلام وفقًا لظروف العصر؛ وبالتالي اتّخذ من الإسلام أداةً للعنف والقمع، وقد شهدنا كثيرًا من الأمثلة على ذلك في الوقت الحاضر.. ولكن علينا أن نعلم جيّدًا أنه لم يَخْلُ دينٌ أو نظامٌ أو أيديولوجيةٌ من وجود جماعات متطرّفة مهمّشة؛ إذ لا توجد قيمة لا يستطيع الإنسان استغلالها لصالحه، ولذلك فمن الخطإ إصدارُ حكمٍ بشأن الإسلام والمسلمين بالنظر إلى حال من أخطؤوا في فهم الدين أو فسّروه تفسيرًا خاطئًا.

أضفْ إلى ذلك قصورَ معرفتهم بالإسلام والمسلمين، فمع الأسف يتوجّس البعض خيفة ممن يصفونهم بالآخر، بل ويضمرون لهم العداوة لأنهم لم يخرجوا خارج حدود الحي الذي يقطنون فيه، ولم تُتح لهم الفرصة لإقامة حوار مع طوائف المجتمع المختلفة.. لأن الإنسان عدوُّ ما يجهله، وقديمًا سمعنا أحدهم يعترف بذلك قائلًا: “لم نخرج من حيِّنا ومنطقتنا”، وبالتالي لم يستطيعوا التعرّف على المجتمع بكل طوائفه وأشكاله وألوانه في أيِّ وقتٍ كان؛ لأنهم عزلوا أنفسهم عن المجتمع، ورأوا أنه من التدني أن يكونوا مع المؤمنين وأن ينزلوا إلى قراهم وبلدانهم؛ ولذلك لم يدخلوا ولم يتعرفوا قطُّ على عالمهم.

وهناك سبب آخر أيضًا وراء هذه الاتهامات التي تُكال للمسلمين، ألا وهو: موقف الكفر من الإيمان.. فمنذ آدم عليه السلام والصراع قائمٌ بين “فاوست ومفستو (Faust-Mefisto)”[1]، وعند النظر إلى الأحداث التاريخية نجد أمثلةً لا حصر لها للصراع بين الإيمان والكفر.. ويمكن القول: إن العديد من الذين يعبرون عن هذه الهواجس والمخاوف التي لا محل ولا مبرّر لها تجاه المسلمين إنما يفعلون ذلك بِمعنًى ما بمقتضى كفرهم وإلحادهم، وتغيير هذا أمرٌ يفوق طاقتنا.

وعندما نفكّر في الأمر على إطلاقه نجد أنه لا يوجد مبرّر معقولٌ للادعاء بأن ممارسةَ المؤمنين لدينهم وشعائرهم سيولّد ما يُسمى بالقمع المجتمعي ضدّ الآخرين.. فإذا ما تم التعامل مع المسألة بمثل هذا المنطق فيمكن تقديم ادعاءات مماثلة بشأن جميع الاختلافات في المجتمع، وعلى سبيل المثال إن صحّ الادّعاء بأن اللاتي يغطين رؤوسهن سيمارسن ضغطًا وقمعًا على الكاشفات رؤوسهن؛ فسيكون عكس هذا الادعاء صحيحًا ومعقولًا أيضًا، ويصل الأمر في النهاية إلى أن يكون الناس جميعًا على شكلٍ ونمطٍ واحد، وهذا أمر مخالفٌ للفطرة الإنسانية المتنوّعة، وضربةٌ قاصمةٌ لإرادة الإنسان وحريته.. فلا يوجد أساس منطقي وعقلاني لمثل هذه الادعاءات.

والذين يدعون أن ممارسة المسلمين شعائر دينهم سيشكِّل ضغطًا عليهم إنما يعترفون عن غير قصد بضعفهم وعجزهم.. وهذا يعني أنهم لا يثقون بأنفسهم ولا بتجاربهم الحياتية، إنهم لا يستطيعون أن يعيشوا في سلامٍ مع أنفسهم، حتى إنه تزعجهم عبادة الآخرين وممارستهم شعائر دينهم، وهذا يعني أنهم في شكٍّ وريبٍ من القيم التي يحاولون إرغام الناس على تقبّلها حتى وإن لم يكن لديهم شكٌّ في أنفسهم؛ لأن الواثقَ في القيم والمبادئ التي يؤمن بها لا يشعر بالضغط من خلال النظر إلى حياةِ أيِّ شخص.. تمامًا مثل الشخص الذي يعرف السباحة لا ينتابه القلق بشأن الغوص حتى في المحيطات الكبيرة، أما الذي لا يستطيع السباحة فإنه يخشى النزول حتى في الجدول.

والمؤمن الحقيقي لديه ثقة بالقيم التي تبناها وآمن بها وجعلها فلسفة حياته، ولا يخشى التعايش مع أتباع الديانات الأخرى والدخول في حوار معهم، والتعرّض لتأثيرهم.. ولذلك لا يحاول أن يمنع الناس من ممارسة عباداتهم، ولا أن يبلّغوا الآخرين الحقائق التي يؤمنون بها، فإن انتابه القلق في هذا الأمر؛ فهذا يعني أن لديه شبهة في دينه، ولم يستقرّ الإيمان بعدُ في قلبه، ومثل هذا الشخص الذي يعيش في الفراغ قد يتحوّل إلى اتجاهٍ آخر إن لم يكن اليوم فغدًا.. والذين لا يعيشون في سلامٍ مع أنفسهم ومع قيمهم الذاتية يخشون الوقوع تحت تأثير الآخرين، وحتى وإن لم يخافوا على أنفسهم فإنهم يخافون من تأثّر الحشود التي يفرضون عليها رؤاهم العالمية؛ ومن ثَمّ يحاولون بشتى أنواع القمع والضغط أن يمنعوا الآخرين من ممارسة عباداتهم وتبليغهم لدينهم.

والحال أن الحرية الدينية والوجدانية والفكرية هي من أبسط الحقوق الإنسانية، وعالم اليوم يسلّم بهذا ويُقرّه.. فمن الطبيعي للغاية أن يؤمن الإنسان بسلامةِ فكرة معينة ومعقوليّتها وفائدتها للإنسانية، ثم يرغب في تبنّي الآخرين لها، سواء أكانت هذه الفكرة اقتصادية أو سياسية أو ثقافية أو أخلاقية أو عقائدية، فلو أنكم اعتقدتم في صدقِ شيءٍ وعدالته فطبيعيّ أن تتمنّوا تقبل الجميع له، وكذلك لو اعتقد الناس بأن الفكرة المطروحة عليهم أو القيم المقدّمة لهم أكثر دقّة وصوابًا ووجدوا أنها تعِد بمستقبلٍ مشرقٍ فسيرجحونها بإرادتهم الحرة ويتبنونها.

فإن كنت أومن بأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ربان السفينة التي تصل بنا إلى ساحل السعادة فسأرغب في ركوب الناس جميعًا في هذه السفينة. أجل، إن كنت أفكر في سعادة الإنسانية فهذا واجبي، لأن هذا ما يقتضيه إسلامي وإنسانيتي.. وإذا نظر الإنسان إلى المسألة على هذه الشاكلة فهذا يعني أنه يفكر في الآخرين، ويهتم لأمرهم، ويرغب في وصولهم إلى الصلاح والفلاح، أما إذا لم ينظر إلى المسألة هكذا فهذا يعني أنه يشك في قيمه الذاتية أو لا يفكر في الآخرين مثل تفكيره في نفسه.

المشكلة الأساسية هنا هي أن يحاول الإنسان إكراه الآخرين على تقبّل القيم التي يؤمن بها من خلال اللجوء إلى الضغط والقمع والإكراه، وهذا ما يجب أن نركز عليه ونناقشه.. وإلا فلا بأس في رغبة الإنسان بمشاركة الآخرين ما يراه صحيحًا طالما يحترم أفكارهم ومعتقداتهم واختياراتهم.. فيمكنه أحيانًا أن يبلّغ الحق والحقيقة مراعيًا الأسلوب والمنهج المناسب في ذلك، وأحيانًا أخرى يحاول أن يكون قدوة للآخرين بأحواله وأفعاله، فإن كانت معيشته وأخلاقه وأحواله مقنعة ومؤثرة في الآخرين فليس لأحد أن ينبس ببنت شفة في هذا الموضوع؛ لأن كلّ إنسانٍ حرٌّ في تقبّلِ الأفكار التي تروق له، واتباعِ من يقتدي بهم.

خلاصة القول: إن لكلّ فردٍ الحقّ في أن يكون له رأيٌ يعمل على إحيائه ومشاركته مع الآخرين.. المشكلة هي أن يفرض المرء وجهة نظره على الآخرين بأيّ شكلٍ من الأشكال، والحال أن وجود أشخاص لديهم رؤى عالمية مختلفة في مجتمعٍ ما يُعدّ ثروة لذلك المجتمع طالما يتمتّع كلّ أفراد المجتمع بحرية الفكر والتصرف.

[1]  “فاوست ومفستو”: بطلا المسرحيةِ المشهورة المسماة “فاوست” للشاعر الألماني الكبير “جوته”، يمثِّل فاوست شابًّا وقع في شباك الشيطان الذي يمثله في المسرحية نفسها “مفستو”، وصراع “فاوست-مفستو” يعني الصراع القديم المستمر بين نوع بني آدم والشيطان.