الناذرون أنفسهم للأهداف السامية

الناذرون أنفسهم للأهداف السامية
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

إن من علامات سيرنا على الطريق القويم هو استقرار العفة والعصمة في جذور قلوبنا، وتغلغلُ الرقة والأخلاق إلى أعماق نفوسنا، وعندما نصل إلى هذا الأفق فإذا ما وقعت أنظارنا على الأشياء السيئة والقبيحة فلن نرى جوانبها السيئة، وحتى ولو رأينا ما فيها من قبحٍ فلا نقف عنده، بل نجتازه ونمضي؛ حيث يكمن وراء هذه الأحاسيس السالفة الذكر بعض الآليات مثل الإيمان بالله، ومعرفة الله، ومحبة الله، وبفضلها نستطيع أن نضع إطارًا وسياجًا حول أفكارنا ومشاعرنا ونتحكّم فيها.

ولكن يا للأسف فقدنا -نحن السواد الأعظم من أفراد المجتمع- هذه المشاعر في يومنا الحاضر، وحاولنا تعويضها بأشياء أخرى، فلم نستطع التخلّص من التناقضات، وظللنا فترةً طويلةً لا نعرف قدر وقيمة النظم الإلهية، ولم نمثّل بحقٍّ القيم التي نتبنّاها كمسلمين.. من جانبٍ آخر حاول البعض أن يُظهر لنا الجميل قبيحًا والقبيح جميلًا، والطيب خبيثًا والخبيث طيبًا، فأضروا بقيمنا الأخلاقية والدينية؛ وبعض المنظمات الإرهابية التي تمارس أعمال العنف والإرهاب شوّهت وجهَ الإسلام المُشرق.. وقد حاول الكثيرون فهمَ الإسلامِ بالنظر إلى النماذج السيئة، فوقعوا في أخطاء متوالية.

ويا لها من نعمة عظيمة أنعم الله بها على الذين كرّسوا حياتهم لخدمة الإيمان والقرآن أن منحهم الفرصة لخدمة الإيمان والقرآن وسط كل هذه السلبيات، ونثرهم كالبذور في كل أصقاع الأرض، وأحسن عليهم بإمكاناتٍ ومؤسّساتٍ استطاعوا من خلالها الوصول إلى مواطني الدول التي هاجروا إليها.. فكلُّ هذه فرصٌ مهمّةٌ لإظهار حقيقة القضايا التي أُسِيء فهمها حتى الآن.

ومن ثَمّ لا ينبغي أن تتأثروا بالذين يُضمرون الحقد والكراهية والعداء لكم إذا كشّروا عن أنيابهم وأسالوا لعابهم بهدف الانقضاض عليكم.. قد يراكم بعضُ الذين جُبلوا على الكره والعداء -وهم أصحابُ الآفاق الضيقة- بشكلٍ مختلف؛ لأنهم يحملون عقلية ترى الأبيض الناصع أسود حالكًا، من أجل ذلك يعملون على أن يُبرزوا للآخرين الجميلَ فيكم قبيحًا، لكننا صرنا في زمنٍ يفتش فيه الكثيرون عن النور من حولكم، فعليكم أن تستغلوا كل مواهبكم وقدراتكم في سبيل الغاية التي نذرتم أنفسكم لها، دون أن تستنفذوا طاقتكم يمنة ويسرة.

لقد أنعم الحق تعالى عليكم حتى اليوم بالعديد من الألطاف الإلهية، فكلّ ما حدث ويحدث هو من فضل الله تعالى وإحسانه عليكم، لقد استعملكم سبحانه وتعالى في الوظيفة التي عهد بها إلى الصحابة الكرام والتابعين الفِخام، ومَنْ بعدهم من المجددين والمجتهدين، فلم تتركوا بلدًا إلا ورحلتم إليه، وفتحتم مئات المؤسسات في مختلف أنحاء العالم، فلله الحمد والمنة ألف ألف مرة، فالنفس أدنى من الكل، والوظيفة أسمى وأعلى من الكل.. وكما كلّف الله النمل أن يصنع لنفسه قبابًا تفوق قدراته ومهارته، فلا ندري لأي سببٍ أحسن سبحانه وتعالى إلينا بهذه الألطاف على مستوى الشرط العادي، ولعلّ الإخلاص البادي عليكم إلى حد ما، والوفاق والاتفاق بين الإخوة؛ كانا سببًا لاستدرار لطفِ الله وتوفيقه وعنايته.

فطالما حافظتم على مستواكم واستقامتكم، وصُنْتُم سلامةَ فكركم ومشاعركم؛ فمن يدري ما الألطاف الأخرى التي يمكن أن يحسن بها ربُّكم عليكم! وما دمتم تواصلون السير على نهج النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تتطلّعون إلى المقام والمنصب، ولا تتشوّفون إلى المنافع الدنيوية؛ ولا تقعون تحت وصاية أحد، وتؤثرون إحياء الآخرين على حياتكم، وتواصلون السير نحو الشمس دون الركون إلى الظلال؛ فستستمر هذه الألطاف بفضل الله وعنايته.

فلا تلتفتوا إلى الرياح المعاكسة، ولا إلى الأمواج المتلاطمة، ولا تتأثروا بجلبة الظالمين، وما دام الله معكم فلن يتغلّب أحد عليكم، والذين يظنون أنفسهم أعزاء اليوم سيكونون أذلاء غدًا، والذين يظلمون الأمة اليوم سيتبعثرون يمنة ويسرة كالأوراق التي عصفت بها رياح الخريف، فلا يساورنكم الشكّ أبدًا في هذا؛ لأن الله يمهل الظالم حتى لا تبقى له معذرة في الآخرة، ولكن لا يُهمله، وإذا مُسّت غيرة الله اشتدت صفعته، وإنه سبحانه لَيُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته، هكذا تجري السنن الإلهية، وفي التاريخ شواهد كثيرةٌ على ذلك.

جدير بالذكر أن هناك فتراتٍ يكون للإنفاق والجهود المبذولة في سبيل الله قيمةٌ أكبر مقارنةً بالفترات الزمنية الأخرى؛ لأن الأوضاع شديدة الوطأة، ونحن اليوم نعيش مثل هذه الفترة الزمنية.. فالذين تسلّطوا في الماضي على الأنبياء الكرام والأولياء العظام وعباد الله المكرمين يمارسون الشيء نفسه اليوم عليكم، ولذلك علينا أن نصبر ونتحمل اليوم كما تحمل السابقون البلايا والمصائب الواقعة عليهم في الماضي.. لا بد أن نثبت على طريق الحقِّ الذي عهدناه دون القلق بشأن المشاكل التي نتعرض لها، وأن نحلّق كاليمامة، وأن نعدو مثل الحصان.

فما علينا القيام به بإذن الله وعنايته هو الهجرة إلى الأماكن التي تعذر علينا الوصول إليها حتى الآن، وأن نضاعف مؤسساتنا المفتوحة، وخدماتنا المبذولة، ومساعينا المتواضعة، فرغم أن الذين يركضون خلف أوهامهم لا يتوانون عن خداع الأمة بادعاءاتهم الواهية؛ فإن الله تعالى قد حقق على أيديكم الكثير من الإنجازات، وأملُنا أن يوفقنا سبحانه وتعالى إلى تحقيق أعظم منها!

  لا شك أنه سيخيب سعي الأرواح المظلمة التي حصرت همتها على عرقلة هذه الأعمال الخيرية، لكن المهم هو ألا نبتعد عن سبيل الله أو ننحرف عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم، وأن نحيا بمشاعر إحياء الآخرين، ولنذهب بالأمانة التي حملناها على عاتقنا إلى أبعد مكانٍ نستطيع الوصول إليه دون أن نتخلّى عن عزمنا القوي وإيماننا النقي.

يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: “عَجَبًا لِأَمْرِ الْمُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ”[1].. ولذلك يجب ألا نكفّ عن قول: “الحمد لله على كل حال سوى الكفر والضلال”. أجل، ما دمنا لم نقع في الضلال، ولم نهدم جسور الحياة الأخروية، ولم نقطع صلتنا مع ربنا سبحانه وتعالى؛ فالحمد لله على كل حال!

فإذا ما نظرنا إلى الحياة من هذه الجهة فظنِّي أننا لن نهتزّ أمام العواصف العاتية، والأمواج المتلاطمة، والأعاصير المدمرة.. وسنواصل طريقنا قائلين: “لا كرب وأنت ربّ”، فماذا وَجَدَ مَنْ فَقَدَك؟ وَماذا فَقَدَ مَنْ وَجَدَك؟!

[1] صحيح مسلم، الزهد، 64.