المحاسبة والاستغفار

المحاسبة والاستغفار
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

يقول مفخرة الإنسانية صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: “كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ”[1] مبينًا بذلك أن لكل فردٍ ساحة أو مجالًا هو مسؤول عنه، ويُحاسَب عليه.. فعلى سبيل المثال من يتولى إدارة قرية أو بلدة أو دولة يكون مسؤولًا عن إرساء الحق والعدالة فيها، وتحقيق الاستقرار والانتظام بها، وحماية أهاليها والذود عنهم، ومن ثم ينبغي على كل واحد من هؤلاء أن يحاسب نفسه أولًا على كلِّ موقِفٍ سلبيٍّ في نطاق مسؤوليته؛ فمثل هذا الصنيع يعبّر عن بصيرته وإنصافه وخشيته من ربه، أما أن يبحث عن المذنب في الخارج دون أن يحاسب نفسه فهذا دليل على جحوده وعمى بصيرته.

فعلى الذين نذروا أنفسهم للحق تعالى وعلموا أن غاية حياتهم هو بث روح الإحياء في نفس الإنسانية؛ أن يتحرَّوا دقةَ وحساسيةَ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بطلِ المحاسبة الذي أرجع الجفاف وانحباس المطر إلى ذنوبٍ اقترفها.. أسأل الله تعالى أن ينشأ بين رجال الدعوة الذين قدّموا خدمات جليلة للإنسانية مَن يصل إلى هذا الأفق والمستوى! فمثل هؤلاء سيرشدون الإنسانية إلى الطريق الموصِّل إلى إكسير الحياة، ويكونون وسيلةً إلى انبعاثٍ جديد، فإن كنتم من أبطال المحاسبة الذين ينسبون كل أمر سلبي إلى أنفسهم وكانت صلتكم وطيدةً مع ربكم فاعلموا أنه حتى ولو طالَتْكم صفعات الشفقة من حينٍ لآخر فإنما هذا أمرٌ مؤقّت زائل، وستشرق الشمس حتمًا بعد الليالي المظلمة وتنير آفاقكم، ولا ندري كم من شؤون ستتولّد من رحم الليل قبل شروق الشمس!

أجل، ما ينبغي أن نركز عليه هو محاسبة النفس، فقد تراودنا أفكارٌ من قبيل: “كنّا أشخاصًا مستقيمين، نسير في الاتجاه الصحيح، وكنا نقدّم خدماتٍ نافعةً للإنسانية، فلماذا بُلينا بكلِّ هذه المصائب؟!”، مثل هذه الأفكار تسوقنا إلى الطريق الخاطئ، ومن ثم ينبغي للمؤمن أن يكون تفكيره على النحو التالي: “يُحتمل أن نكون قد تورّطنا في بعض الانحرافات، أو أننا لم نلجأ إلى الله على الوجه الصحيح، وربما لم نؤمن بربنا حقّ الإيمان، أو أننا قصّرنا في عمل الصالحات، أو لم نُوَفِّ حقّ الموقع الذي استؤمِنّا عليه، أو لم نستغلّ الإمكانات التي وهبها ربنا لنا كما ينبغي”.. لا بدّ أن يكون هذا ديدن المؤمن دائمًا؛ يحاسب نفسه عند كل فرصة، ويتوجه إلى الحق تعالى بالتوبة والاستغفار، ويعدّ مثل هذا الإجراء من أهم وسائل تطهير العبد وتزكيته أمام ربه عز وجل، ومن حافظ على طهره حتى اليوم حافظ دومًا بهذه الطريقة، فإن لم يُخضِع المؤمن نفسه دومًا إلى المحاسبة والمراقبة، ولم يحاسب نفسه؛ انسدت كلُّ طرق الترقي أمامه، وفقد سبلَ الوصولِ إلى الله، وحُرِم رائحة المعية، وتعذّر عليه إدراك الشوق والاشتياق.

لقد كان الذنب بعيدًا كل البعد عن مفخرة الإنسانية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أن الله تعالى لم يمكّن الذنب من أن يراود حتى خياله في الماضي، وسد كل الطرق أمامه في المستقبل، ورغم ذلك كان صلوات ربي وسلامه عليه يستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة، فداؤك نفسي يا رسول الله! على ما كنت تستغفر؟! لا أتصور أبدًا -أنا القطمير- أن يكون الذنب قد راود حتى مخيلتك! فإن عالجتم أنفسكم كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان توجُّهُ اللهِ لكم بنفس القدر، وإن حرصتم على النقاء والتزكية والطهر حفظكم ربكم، ولم يدع غبار الذنب يصيبكم.

“من كان لله، كان الله له”؛ بمعنى أن من كرّس حياته لله -فلا يقوم ولا يقعد إلا بالله، ولا يفكر إلا في الله، ولا يتمتم إلا بذكر الله، ويحرص دومًا على التعبير عن أفكاره عن الله- فلن يدعه الله وشأنه أبدًا، ولن يقطع عنه عنايته وفضله، من أجل ذلك نقول في دعائنا: “اللهم كن لنا، ولا تكن علينا”، أي اللهم أفِض علينا تجلياتك، وتوجه إلينا، ولا تكن علينا.

فما يقع على عاتق المؤمن هو أن يعرف أين هو من علاقته بالله في كل مناحي حياته، وأن يقضي عمره بطلًا للمحاسبة.. فضلًا عن ذلك فإنكم إن حاسبتم أنفسكم هنا فلن تتعرّضوا للحساب في الآخرة؛ سيُعطَى لكم جوازُ مرورٍ خاص، ويُنادى عليكم أن مرّوا دون حساب، عندها تتجاوزون البرزخ والمحشر، وتطيرون من فوق الصراط، وتفوزون برؤية ربكم ورضوانه، ولذلك يقول الفاروق الأعظم سيدنا عمر رضي الله عنه: “حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا”.

فإن عشتم حياتكم بهذا الوعي؛ فحاسبتم أنفسكم، وقضيتم أوقاتكم في تفكر وتذكر وتدبر؛ فستفوزون برضا الله عاجلًا أم آجلًا، أما إن أعرضتم عن محاسبة أنفسكم؛ انشغلتم بمحاسبة الآخرين، أو بالأحرى شغلكم الشيطانُ بغيركم، فلن تستطيعوا الوصول إلى المستوى المطلوب.. وحتى لو سلمت حياتكم المعنوية وخلت من الفوضى فلن تستطيعوا المحافظة على استقامتكم لتعلّقكم بانحرافات غيركم وانشغالكم بها.

فينبغي للإنسان أن يضبط إيقاع قلبه باستمرار، وأن يتوخّى الدقة في حياته، وإلا صار إنسانًا سطحيًّا، وكلما كان سطحيًّا تعلّق بعيوب الآخرين وأخطائهم، ومن انشغل بإحصاء عيوب الآخرين نسي نفسه، ومن نسي نفسه وقع في أخطاء جمة دون أن يدري، ومن ينشغل بدنياه ينسى آخرته، فيضيعها.

وفي القرآن الكريم عشرات الآيات التي توجه المؤمنين إلى المحاسبة والاستغفار، يقول ربنا سبحانه وتعالى في الآية الأخيرة من سورة البقرة التي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بقراءتها قبل النوم: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (سورة البَقَرَةِ: 2/286).

وفي سورة آل عمران إشارة إلى أن المحاسبة والاستغفار من الصفات التي يتسم بها الربيون الذين نذروا حياتهم لخدمة الدين، وكيف كان هؤلاء الربيون يقاومون عدوهم: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/146)، وفي الآية التالية يقول ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/147).

في ختام الآية يأتي طلب النصر والمعونة من الله عز وجل، ولكن في بدايتها يحاسب الربيون أنفسهم، ويستغفرون لذنوبهم وإسرافهم في أمرهم ويتطهرون، فهل لا يستجيب الله دعاء من لجأ إليه؟! يستجيبه بالطبع؛ ولذلك يقول في الآية التالية مبيّنًا كيف كانت استجابته لدعائهم: ﴿فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (سورة آلِ عِمْرَانَ: 3/148)، فلا يحرمهم الله من لطفه وكرمه وفضله وإحسانه، ويبلّغهم مرادهم في الدنيا، وينعم عليهم بأجلّ النعم في الآخرة.

نفهم من هذا كله أن من الشروط الأولية للفوز بألطاف الله التزكية والتوبة والاستغفار، ومن ثَمّ يجب أن يكون لدى المؤمن إصرار وعزم وحرص أكيد على التزكية والتطهر، وللوصول إلى هذا الهدف لا بدّ أن يُخضِع نفسه للمحاسبة والمراقبة، وأن يعلم أنه إذا كان هناك من شيء لا بدّ من الشكوى منه فهو نفسه أولًا، فمهما كانت حياة الفرد نقية طاهرة فمن الجدير به أن يتوجّه إلى الله بشعور المحاسبة؛ لأن هذا يكشف عن ولائه لربه وإخلاصه في عبوديته، فضلًا عن أن هذا السلوك يجنّبه إلصاق الجرم بالآخرين والانشغال بعيوبهم والبحث عن المذنب في الخارج دائمًا.

فمن لديه هذا الوعي يتمكّن من إصلاح عيوبه ومعالجة تصدعاته.. ومثل هؤلاء وحدهم هم الذين ينالون سعادة الدنيا والآخرة كما ورد في الآية الكريمة.

[1] صحيح البخاري، الجمعة، 11؛ صحيح مسلم، الإمارة، 20.