الدين المعاملة

الدين المعاملة
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

يقرِن القرآنُ الكريم في العديد من آياته بين الإيمان والعمل الصالح، وفي هذه الآيات يرد ذكر العمل بعد الإيمان مباشرة، وهذا يعني أن الإسلام النظري لا يكفي وحده، وإنما لا بدّ من التصاقِهِ بالإسلام العملي.. أي يتشبّث المؤمن بأركان الإيمان قولًا وعملًا، ويتبع سبيل المرشدين.. ومرشدُنا في هذه المسألة كما في كلّ المسائل هو مفخرةُ الإنسانية سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن بعده صحابتُه الأصفياء وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون.. وفي هذا الجانب يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم: “عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ[1].

ولا جرم أن توجيهَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنظارَنا في مسألة العمل إلى سنة الخلفاء الراشدين من بعد سنتِه السنية، وأمرَه بالتمسّك والاعتصام بنهجهم له دلالةٌ ومغزًى كبير؛ وذلك لأن منهج الخلفاء الراشدين هو منهج الأنبياء حقًّا، فالفهمُ الصحيح للدين، ومعايشةُ الدين على نحوٍ مستقيم، وتحويلُ الإسلام النظري إلى إسلامٍ عمليّ: أي جَعلُ الدين روحًا للحياة؛ كل هذا منوطٌ بعدم الانحراف عن هذا المنهج.. فإذا أردنا تحويل الإسلام التقليدي إلى إسلامٍ تحقيقي فعلينا بهذا المسار.

ومن أبرز خصال الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أن أفعالَهم أكثر من أقوالهم بعشرة أو بعشرين ضعفًا.. والحقّ أن مسلمي اليوم الذين يكتفون بالشكليّة والسطحية؛ في أمسّ الحاجة إلى هذا النموذج الإسلامي الذي وضعه هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم، وكما ذكرنا آنفًا فإن هدفَنا الأساسي هو تحويلُ الإسلامِ النظري الذي ورثناه عن آبائنا وأمهاتنا وبيئاتنا إلى إسلامٍ عملي، والانسلاخ ُمن الإيمان التقليدي الذي ورثناه عن البيئة الثقافية التي نشأنا فيها، والانتقالُ إلى الإيمان التحقيقي.

العلاقة بين الإيمان والعمل

ثمّة صلةٌ قويّة بين الإيمان والعمل، فكما أن الإيمان الراسخ يتطلّب عملًا، فإن العمل يغذّي الإيمان ويقوّيه، فالمؤمن بالله وكتبه ورسله صدقًا وعدلًا يأتمر بالأوامر، وينتهي عن النواهي، وهذا من شأنه أن يقوّي إيمانه ويقربه إلى التحقيق، ويُبعده عن التقليد، وهو هدفٌ بالغ الأهمية بالنسبة للمؤمن.

 إننا لا ندري هل سينتفع المرء من الإيمان التقليدي في القبر، وحياة البرزخ، والمحشر، والصراط أم لا؟! من الممكن القول انطلاقًا من سعة رحمة الله إن المرء سيدخل الجنة أيضًا بإيمانه التقليدي، هذا إذا فكرنا في الأمر بالنسبة للآخرين، أما عندما نفكر في أنفسنا فلا يجب أن نقطع بذلك، بل علينا أن ندعم إيماننا بالعمل، وأن نجعله جزءًا من طبيعتنا، وأن نصل به إلى مرتبة التحقيق.

إن المؤمن باعتبار أصل الكلمة هو مَن يؤمن بالله ويعتمد عليه، كما أنه في الوقت ذاته الممثِّلُ للأمن والأمان، ولكن المهم ليس الأسماء، بل استيفاء حقّ هذه الأسماء.. فهل جعلنا الإيمانَ حقًّا جزءًا من طبيعتنا؟ وهل نحن حقًّا ممثِّلون للأمن والأمان والاستقامة والعدالة على وجه البسيطة؟ لا داعي للثرثرة والادعاءات الكبيرة، فأعمالُنا هي التي ستكشف عن ماهيتنا، وعن مدى إيماننا بربنا، وعن قدْرِ صِلتنا معه سبحانه وتعالى.. فإذا كانت جميعُ أفعالِنا وسلوكياتنا، بل وردودُ أفعالنا ودوافعُنا الداخلية تدور حول الإحسان والخير؛ فهذا يعني أننا مؤمنون حقًّا.

هل يقتصر العمل الصالح على العبادات؟

من المعلوم أن القرآن الكريم يركز على العبادات مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج، فلهذه العبادات دَورٌ مهمّ في حياة المسلم، ولكن ليس من الصحيح اعتبار العمل الصالح مجرَّدَ عبادات فقط، فنطاقُ العمل الصالح أوسعُ بكثير، فهو يشتمل على كل السلوكيات الفردية والأسرية والتجارية والاجتماعية والسياسية، ولهذا ينبغي للمؤمن أن يراعي في تصرفاته حدودَ الحلال والحرام، والموازين التي وضعها الدين، والمبادئ الأخلاقية، وأن يبتعد فراسخ عن السلوكيات التي حظرها الدين صراحةً، وألا يسمح لنفسه بالاقتراب من الشبهات.. فمثلًا لا يكتفي بألا يأخذ الرشوة، بل يتجنّب كلّ السلوكيات التي تشي بالرشوة، كما عليه أن ينجز أعماله مراعيًا العدلَ والإنصاف، وألا يهضم حقّ أحدٍ ولو بمقدار ذرّة.

والكتب الفقهية التي تحتوي على الأحكام الخاصة بأعمال المسلمين تقسِّم الأعمالَ في الأساس إلى قسمين: العبادات، والمعاملات.. فالمعاملاتُ هي كلُّ فعلٍ خارج عن العبادات، لا سيما العلاقات والمعاملات بين الناس.. ولقد جاء في الأثر: “الدِّينُ الْمُعَامَلَة”، فالمؤمن الحقيقي يتّضح بمعاملاته ومراعاته لمسألة الحلال والحرام، فإن لم تجد الكلمات التي تنساب من الأفواه ما يقابلها في الحياة العملية، وإن لم تتوطّد الأفكار بالأعمال وظلّت مجرّد نظريّة فلا قيمة لها..

قد يخرج البعض ويتكلّم كيف يمكن أن نكون مثل الصحابة، وقد يدعي أنه يسير على نهج الخلفاء الراشدين، ويَعِظُ الناسَ ويعِدهم بوعودٍ كبيرة، ولكن يا تُرى هل تتّفق أفعاله مع أقواله؟! وهل يتوخّى الدقّة العالية في معاملاته؟! وهل يتحرّى بقدر الكفاية مسألةَ الحرام والحلال؟! فإن كان الجواب بالإثبات فهو حريٌّ بأن يُصغى إليه، أما إذا كان الجواب بالنفي فهو إذًا كذّابٌ غشّاش ليس إلا.. ومع الأسف نقابل كثيرًا من هذه النماذج الأخيرة في أيامنا، ولو أنّك طوّفتَ بخيالك حول العالم، وتتبّعتَ هذا بفِراستك؛ فستجد نماذج كثيرة من هؤلاء حولك.

ولقد صوّر الشاعر “عاشق رُخْصَتي” هذا المنظر الذي نعيشه بقوله:

لقد أصبحنا في عصر ٍ
لا يُعرف فيه الشجاع ولا النبيل
الكلّ يبكي على ليلاه
ولا يُعرف الدواء ولا العليل

وأنا أقول بعد إجراء بعض التغييرات الطفيفة على هذين البيتين:

لقد أصبحنا في عصر
لا يُعرف فيه المؤمن من المنافق
الكلّ يبكي على ليلاه
ولا يُعرف الحبيب مِنَ الغريب

إننا نعيش في عهدٍ تبدو فيه أوضاع العالم معقدة للغاية.. فقد راجت الأكاذيب، وحيكت المؤامرات، وانتشرت الافتراءات، وللأسف يصدقها الكثير من المؤمنين السذّج، ولكن لا بد أن يأتي يوم تُكشف فيه الحقائق، ويقضي الله فيه بحكمه.

ما يقع على عاتقنا

ليفعل كلُّ شخصٍ ما بدا له، فما يقع على عاتق المؤمنين المخلِصين هو تحويلُ إيمانهم النظري إلى إيمان عملي، والحفاظُ على المنهج الذي رسمه الإسلام لهم في عباداتهم ومعاملاتهم، والكشفُ عما تتطلّبه هوياتهم في كلّ موضع.. عليهم أن يتجنّبوا كلَّ فعلٍ أو تصرُّف يمسّ عفّتَهم وشرفَهم، ومن جانب آخر عليهم أن يتحلّوا بالمروءة واللطف والاتزان والإنصاف والعدل لأقصى درجة في معاملاتهم مع الآخرين، ويجب ألا يقصروا هذه الخصال النبيلة على الناس فقط، بل لا بد أن يحتضنوا الكائنات كلّها بشفقتهم ورحمتهم، فإن نصيبَ الإنسان من الإيمان على قدر شفقته بالمخلوقات، لهذا السبب يعتبر المؤمنُ الحقيقيّ اقتلاعَ ورقةٍ من شجرةٍ قبل أوانها، وعدمَ الالتفاتِ إلى النمل أثناء السير؛ نوعًا من الجرم.. فإذا استطاع المؤمنون الحفاظ َعلى هذا المستوى فتحت لهم الإنسانيةُ صدرها، وتقبّلتهم، ومدَّتْ لهم يدَ العناية والرعاية، فدَعُوا المحرومين من الشفقة والرحمة يتخبّطون في غيظهم وحقدهم وكرههم.

إن المؤمنين الحقيقيّين الذين وصلوا إلى الإيمان التحقيقي وتوّجوا إيمانهم بالعمل الصالح؛ مهما كانت حساسيّتهم ودقّتهم في تنفيذ أوامر الدين والتعامل بشفقة مع المخلوقات، ومهما فعلوا من أعمال صالحة؛ فإنهم يعرفون كيف ينسحبون تواضعًا، بل وكيف يخفون أنفسهم.. إنهم لا يسعون إلى التميّز أو التقدير لإنجازاتهم؛ لأن المؤمنين بالله حقًّا يكفيهم أن الله يرى ويعلم كلّ شيء، فالشيء الوحيد الذي يهتمّون به ويقلقون بشأنه هو ما إذا كانت أعمالهم متوافقة مع إرادة الله أم لا، فطالما أن الله راضٍ عن أعمالهم فلا يهمّهم أن يعلم الآخرون بما فعلوه أم لا، أو أن يتوجهوا إليهم بالتقدير أم لا.

[1] سنن الترمذي، العلم، 16؛ سنن أبي داود، السنة، 5.