رَتَابة النظام وأَعمَار المجتمعات

رَتَابة النظام وأَعمَار المجتمعات
Mp3 indir

Mp4 indir

HD indir

Share

Paylaş

تحميل mp3
Share

يشارك

سؤال: هل ما تُنتِجُهُ رتابةُ النظام من العمى هو الذي يُحوِّلُ ما تُنجزه الخدمة في سبيل الله من أعمالٍ قيّمة إلى أعمالٍ عاديةٍ ورتيبةٍ في نظرِ البعض مع مرور الزمن؟ وما الواجب عمله حتى نتجَنّب الوقوع في مثل ذلك؟

الجواب: إنَّ مَنْ التَفُّوا حول غاية مثالية هي إبهاج الإنسانية وبثّ نسمات السعادة في كل أرجاء العالم قد بذلوا وما يزالون يبذلون جهودًا ومساعي حثيثة حتى اليوم كي يُحقِّقوا رؤاهم وأحلامهم تلك، ومن الواضح أن الحق تعالى بارك في جهودهم تلك فأثمرتْ؛ فضاعفها لهم بغيثٍ من نعمائه ولطفه، ووفقهم في الطريق الحق الذي سلكوه، غير أن استمرار تلك النجاحات التي هي إحدى نتائج العناية الإلهية مرهون بالحفاظ على الإخلاص والصدق، وعدم التخلي أبدًا عن الفكرة المثالية التي هي محور العمل، فإن تجاهَلْنا -والعياذُ بالله- النِّعَمَ الإلهية التي تغمرنا من مفرق رأسنا إلى أخمص قدمينا، ونسبنا إلى أنفسنا ما نلناه من نجاحات وأقمنا الوسائل مقام الغاية تعرضنا نحن أيضًا إلى الانهيار الذي تعرضت له كل المجتمعات، وإذا درَسنا جيِّدًا أسباب الخسائر التي مُنِيَت بها المجتمعات الإسلامية في عصور مختلفة نجدُها مرتبطةً بمثلِ هذه العثرات الفكرية ارتباطًا وثيقًا. 

لا بد من الاعتراف بالعناية الإلهية في النجاحات

وزيادةً في التوضيح نقول: إنَّ رجال الخدمة الفدائيين الذين هاجروا إلى كلّ بقاع الأرض يحظَون بتوفيقٍ وإحسانٍ إلهيٍّ يفوق ما يبذلونه من جهدٍ، إذ إنَّ أحدًا منهم لم يُعرِّض نفسَه للخطر بِقَدرِ ما فَعَل القادة في غزوة مؤتة، ولا اشتبك أحدٌ منهم مع العدو بقَدْرِ أبطال اليرموك؛ ومع ذلك فقد حظوا بالاهتمام إلى حيث ذهبوا، ونالوا التقدير على الخدمات التي قدموها رغم أن اهتمامهم بهمومِ الإنسانيّة لم يرتقِ بهم إلى أفقٍ ينسون فيه طرقَ منازلهم وأفرادَ أُسرِهم وأسماءَ أبنائهم.. والحقيقةُ التي لا تُنكَر هي أنَّ الجهود والمساعي المبذولة في الأماكن التي هاجر إليها رجال الخدمة الفدائيون تتسبب بلطف الله وفضله في إنجاز خدمات عظيمة على مستوى العالم، ولكنَّ تجاهلَ العناية والرعاية والكلاءة الإلهية التي تقف وراء تلك الخدمات ونسبةَ كلّ هذه الأفعال الجميلة إلى أنفسنا والاعتقادَ بأنَّ النظام أو المؤسسة التي تكوَّنت بلطف الله وعنايته سوف تستمر وتبقى هكذا دائمًا، حتى وإن لم تحافظ على النسق المطلوب، كلُّ هذا يعني رتابةً وعمى خطيرًا وحقيقيًّا.

ضرورة التحدّث بنعمة الله عند النجاح والتوجه إليه سبحانه وتعالى

نعم، إنَّ الرتابة والعمى يتولّدُ في جذرِ الإنسانِ مع أي نجاحٍ يُحقِّقُه في مختلف المجالات، كالارتقاء إلى مستوى ومكانةٍ مرموقة، واكتمالِ الشكل المؤسَّسيّ، وتأسيسِ نظام سليمٍ وقويّ، علاوة على أن الذين يعانون من مثل هذه الرتابة والعمى ربما يتعرضون لمكرٍ أو استدراج إلهيٍّ بحيث ينسبون إلى أنفسهم النِّعَمَ التي يفيض الله تعالى عليهم بها؛ ولذلك فقد يقعون في هاويةِ الكِبْر والغرور بدلًا من التحديث بِنعم الله عليهم وحمده والثناء عليه لتلك النجاحات التي حظوا بها، وكلُّ هذه الأمور عوامل تُطِيحُ بالإنسان وتقلبه رأسًا على عقبٍ.

وكما ذكر العلماء والمؤرّخون الاجتماعيون فإنَّ أغلب المجتمعات والأمم التي تُحقِّقُ نجاحات معينة تعيشُ فترةً من الرتابة والعمى تختلف درجتها بحسب نشوة النصر، وقد تسبب مثل هذا الوضع في تفكُّك المجتمعات وتشرُّدها فَهَوَتْ وتردَّت في حفرٍ سحيقة، وعند دراسة وتَفَحُّص أسباب انهيار كلٍّ من “روما” و”بيزنطة” و”السلاجقة” و”العثمانيين” يتبيّن أنهم جميعًا عاشوا نفس القَدَرِ والنهاية، ويمكننا القول إنَّ بعضَ الدول البارزة في توازن القوى الدولي بدأت في عصرنا الراهن تدخل مرحلةً شبيهة بتلك، والحقيقة أنَّه عند إخضاع المسألة لتحليلٍ صحيحٍ نخلصُ إلى نتيجةٍ مسلّمة، ألا وهي أن الدول التي سيطرت على أماكن معيّنة من العالم وحققت بعضَ النجاحات دخلَت في مرحلةِ عمى النظام وانتهى بها المطافُ إلى التفكُّك.

ضرورةُ توجيهِ الناس وتوظيفِهم بما يُحقِّقُ الغايات السامية

إن حماية المجتمع من الإصابة برتابةٍ وعمًى كهذا وإطالةَ عمره تقتضي توجيه الناس إلى أهداف سامية وتكليفَهم بواجبات ينشغلون بها دومًا، فيعملوا دائمًا ويتحرّكوا بأدمغتهم المفكّرة وأرواحِهم المنفتحةِ على الجميعِ وضمائرِهم التي تسعُ الكون بأكمله، وينبغي لهم ألا يفقدوا أبدًا قدرَتهم على الشدِّ المعنوي؛ فإنْ لم تشغلوا الناس بغايات سامية وبمجموعةٍ من الأعمال النافعة في سبيل تحقيق تلك الغايات شغَلَهم الشيطانُ بالباطل.

تطوير أسلوب الخدمة وفقًا للبيئة الثقافية أو الظروف المحيطة بها

ويجب عليكم من جانبٍ آخر أنْ تضعوا في حسبانكم البيئات الثقافية المختلفة المنتشرة في الدنيا وتستفيدوا جيّدًا من القواسم المشتركة، وتُحدِّدوا نقاط الاتّفاق تحديدًا صحيحًا، ثم تنشغلوا بشكل وصيغةِ الخدماتِ المستهدف تنفيذُها، وتبحثوا عن مجموعة من الطرق والأساليب الحديثة وفقًا للظروف كي لا تتعرضوا لرتابة وعمى النظام، وإلا فمن المتوقع والمُقدَّر أن تتعرضوا للضعف والزوال والاندثار.

سدُّ الأبواب أمام حبّ النفس والدنيا

إلى جانب ما تقدم فإنَّه ينبغي لمن يتصدرون هذا الأمر أن يسدّوا الأبوابَ أمام النفس والدنيا، وأنْ يُحكِموا إغلاقها بعشرات المتاريس، وإذا ما دعاهم داعٍ إلى الدنيا ومفاتنها أجابوه قائلين: “لا تُتعب نفسك سُدًى؛ فجميع الأبواب موصدة!”، بل وعليهم ألا يتشوفوا إلى أي شيء حتى ولو كان أخرويًّا، وليس دنيويًّا فحسب، وأنْ يطلبوا رضا الله تعالى لا غير، ويعيشوا حياتهم وفقًا لفلسفة الأستاذ بديع الزمان:

“إنْ رأيتُ إيمانَ أمتنا في خير وسلام فإنني أرضى أنْ أُحرق في لهيب جهنّم؛ إذ بينما يحترق جسدي يرفل قلبي في سعادة وسرور”[1].

التحرُّك في فلك القلب والروح

 إن من ينسبون الأمور إلى أنفسهم سيفقدون حماسهم إن عاجلًا أو آجلًا وسيموتون معنويًّا، أما مَنْ محوا أنفسَهم فقد أرجعوا الأمر إلى الله عز وجل ولجؤوا إلى قوته وقدرته، ومن لجأ إلى قوته وقدرته سبحانه وتعالى يتجاوز الصعاب حتى ولو بلغت عنانَ السماء ومتنَ الجوزاء؛ لأنه اعتمد على القوة والقدرة الأبدية الخالدة، ومع ذلك كله فهو لا يتعب ولا يفقد شيئًا من قوته وطاقته في أثناء عمله في سبيل الله.

ومن ثم فإنَّه يجب على من يتقدمون صفوفَ المجتمع أن يُحافظوا على نشاطهم وحيويتهم كي يتسنى لهم منح النشاط والطاقة إلى مَنْ حولهم؛ فمن لا يتحركون في فلك القلب والروح يستحيل أن يكونوا وسيلة لإحياء الآخرين، ومن فقدوا حيويتهم ونشاطهم وتعرضوا للانهيار المعنوي والروحي لا خير فيهم لأنفسهم فكيف يكون فيهم خيرٌ للآخرين والقاعدة أنَّ: “فاقدَ الشيء لا يُعطيه”، ومن ثم فلن يستطيعوا إكساب الآخرين الحياةَ والعشقَ والهيجانَ، ولا سيما من يُسلِمون أنفسهم للخوف والترف وحبِّ النفس والمال والبنين، ومَنْ يَستخدمون مناصِبَهم مِنْ أجلِ اختطافِ بعضٍ من إمكانياتِ الأمة لمصالحهم الشخصية يستحيل عليهم تمامًا أن ينفثوا الحياة في غيرهم.

النشاط الدائم وضرورةُ السعي من نضالٍ إلى آخر!..

منذ فجرِ الإسلامِ مرورًا بعهدِ الخلفاء الراشدين كان الناس يتقلّبون في الجهادِ دائمًا،  فتارةً من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر والعكس تارة أخرى؛ ولذلك فقد حافظوا على الحيويّة النابضة وحققوا من الفتوحات ما لا نظيرَ له، ولم يكن لديهم من حطام الدنيا شيءٌ سوى بيوتهم الطينيّة، ورغم ذلك فإنَّ تلك القامات العظيمة المنفتحة على رحابة الأفق تسببت بإذن الله تعالى وعنايته في إعمارِ بقاعٍ شتّى من العالم، ولذلك فإن السبيل الوحيد للنجاحِ والتغلُّبِ على رتابة وعمى النظام إنما هو إدراكُ هذا القوام الذي مثَّله الصحابةُ الكرام ومن ثمّ تنشئةُ أجيالٍ تحمل الغاية المثاليّة وفقًا لذلك القوام.

القدرة على إطالة عمر المجتمعات

وإن إعمالَ هذه النصائح وتفعيلَ هذه التدابير ليسَ كفيلًا بالحيلولةِ التامّة دون موت المجتمعات؛ لأن الموتَ أمرٌ حتميّ بالنسبة للمجتمعات كما هو بالنسبة للبشر، وقديمًا وجَّهَ أحدُ العظماء للأطباء عبارةً مشوبةً بالتوبيخ والتأنيب فقال: “ألا تستطيعون أن تعثروا على حلٍّ للموت!؟”، والحقُّ أنه لا حيلة في الموت لأن الله جل جلاله قد خلق الموت والحياة، ولا يمكن القضاء على الموت في هذه الدنيا.

وقد قال نبيُّنا صلى الله عليه وسلم عن نهاية الموت: “يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: وهَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا المَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الجَنَّةِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلاَ مَوْتَ[2]، وذكرُ اسمي الله “الـمُحْيي والـمُمِيت” متعاقبين متجاورَين في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة يشيرُ إلى تلك الحقيقة، أي إنَّ الله تعالى هو خالق الموت كما أنه هو خالق الحياة، وبحسب التعبير القرآني فإنَّ الله تعالى هو: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (سُورَةُ الْمُلْكِ: 2/67).

وعليه فإن الموت حقيقة حتميّةٌ عامّة في هذه الدنيا، غير أنه يمكن تأخيرُ حدوث مظاهر الانهيار والانكسار التي تبدو أمرًا مقدرًا بالنسبة للمجتمعات؛ وذلك عن طريق مراعاة العوامل التي ذكرناها آنفًا، ومن ثَـمَّ تطول أعمار تلك المجتمعات، تمامًا مثلما حدث للعثمانيين؛ فإنهم حتى وإن كانوا قضوا جزءًا من عمرهم في القمة، وجزءًا منه في حالةٍ من الشلل التام، وجزءًا في العناية المركزة؛ إلا أنهم صمدوا مدة طويلة قلّما تيسَّرت لغيرهم؛ فكانوا حتى في مراحل الشلل والعجز يضطلعون بدورهم الفاعلِ كعنصرٍ مهمٍّ من عناصر التوازن الدولي.

 

[1] بديع الزمان سعيد النُّورسي: سيرة ذاتية، ص 492.

[2] انظر: صحيح البخاري، التفسير، 1/19؛ صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، 40.